للإطلاع على الحلقة الأولى .. اضغط هنا
ذكريات الطفولة والصبا – الحلقة الثانية أحمد أبوحاتم يتفوق على بلغريف بقلم إبراهيم كمال الدين
الحركة الوطنية في البحرين بكل أطيافها وانتمائها جعلت عزة الوطن والذود عن استقلاله وكرامة وعزة المواطن البحريني من أولويات أهدافها النبيلة. وحركة هيئة الإتحاد الوطني التي قادت انتفاضه 54- 1956م كان هدفها استرجاع كرمة المواطن المهدورة والرقي بالوطن ليكون في مصاف الدول المتقدمة، وليكون المواطن البحريني مرفوع الرأس في وطنه، متعلما مثقفاً، يعرف حقوقه ويطالب بها، فعليه بادرت الهيئة ومنذ تأسيسها بإرسال البعثات التعليمية للخارج، وخصوصا للشقيقة مصر، وشجعت على فتح مدارس ومحو الأمية. وكنا نشاهد الباصات الخشبية وهي تنقل الدارسين زرافات، شباباً وشيوخاً وكلٌ يحمل كراساته متوجها لنادي العروبة الذي كان مركزاً لهيئة الإتحاد الوطني، حيث كان أمين سره الأستاذ عبدالرحمن الباكر ومن ثم الأستاذ حسن الجشي، والإثنان من قادة حركة الهيئة، وكذلك أسست مدرسة الصادق في المنامة لمحو الأمية.
وباشرت الأندية في القرى في تحقيق أهداف ومطالب الهيئة لمحو الأمية وتثقيف الشعب. ولا ننسى الحاج عبدعلي العليوات والحاج محسن التاجر في تأسيس المدرسة الجعفرية، وكان الأستاذ حسين قاسم يتنقل من نادري رأس رمان لنادي النعيم إلى أندية القرى جدحفص والسنابس ليقوم بالتدريس ليلاً.
وفي زحمة المشاغل والإجتماعات التي كان بها قادة الهيئة، إلا أن صلتهم وتواصلهم بالجماهير لم ينقطع، فقد تفرغ الوالد للطواف اليومي بالقرى لإلقاء المحاضرات السياسية، لكونه رجل دين ولمعرفته الشخصية بأغلب أهالي القرى، يعرفهم واحداً واحداً وعائلة عائلة، وذلك لعقد قران غالبيتهم، ويأم منزلنا في النعيم غالبيتهم لحل مشاكلهم.
ولكون عائلة كمال الدين الغريفي انتقلت في سكنها من قرية الغريفة في الشاخورة إلى قرية عالي ومن ثم إلى النعيم، ولكونه داعية وطني يريد لوطنه الإستقلال والعزة والرفعة ولمواطنيه استعادة كرامتهم المهدورة على يد الإنجليز ومرتزقتهم، ويمكنكم العودة للوثائق والمذكرات تفصيلاً وباليوم والتاريخ، مع ذكر أسماء من مارس الإغتصاب والقتل والتنكيل بهذا الشعب الصابر المسالم، وكيف سلبت الأراضي والبساتين من مالكيها بحجة عدم وجود الوثائق التي حرق معظمها (الميجر ديلي) قائد بريطاني مستشار حكومة البحرين من قبل تشارلز بلغريف. وكيف تحول الفلاحون إلى أجزاء في أرضهم، وكيف مورس عليهم الإضطهاد والسخرة والإذلال.
فجاءت انتفاضة شعب البحرين بقيادة هيئة الإتحاد الوطني لتعيد الحق لأهله، فكان قادتها يطوفون المدن والقرى مبشرين بميلاد فجرٍ جديدٍ تسود فيه العدالة والمساواة، ويرفع الظلم عن هذا الوطن الذي قاسى شعبه طويلاً، وكانوا يحثون على الوحدة الوطنية ونبذ الطائفية البغيضة. والتسامي على الأحداث المفتعلة التي حدثت في محرم بضرب مواكب المعزين عندما أراد أحد المتنفذين اختراق صفوف المعزين بسيارته واعترضه المعزون وانهالوا عليه ضرباً، وقذفوهم بالزجاجات الفارغة حتى يحدثوا شرخاً بين الطائفتين (الشيعة والسنة). وسقط الكثير من الجرحى من المعزين، إلا أن سيفهم رد إلى نحرهم، وتسامى شعبنا في وحدة وطنية عارمة قل نظيرها. رافعاً شعار الإستقلال وإبعاد المستشار الإنجليزي بلغريف، وانتخاب مجلسٍ تأسيسي لصياغة دستور عقدي، وإصلاح في القضاء، وحرية الصحافة وانتخابات لمجالس الدولة البلدية والصحة والمعارف.
ونعود إلى عهد الميجر ديلي وتبعاته – هذا القائد البريطاني الذي فر مذعوراً جريحاً مهزوماً من ثورة العشرين في العراق – التي لاحقته وجنوده من قاعدة الحبانية في الشمال حتى البصرة جنوباً. نقل هذا القائد أثر هزيمته إلى البحرين وجاءها منتحراً يطلب بثأره من الشعب العراقي وثورته في إخوتهم المستضعفين من شعب البحرين، وأول عمل قام به دعوته أصحاب الأملاك والبساتين المنتشرة بكثرة في قرى البحرين لتوثيق أملاكهم، وإحضار ما يثبت ملكيتها، وعندما جمع الوثائق قام بحرقها – كما يروي من عاصروه – فأصبح الملك مباح للمتنفذين، فاستولوا المزارع والبساتين والأراضي، وفي أحدى زيارات الوالد لإحدى تلك القرى في وقت تأسيس دائرة الطابور (لتسجيل العقار) كان يحث أهل القرية بتوسيع دائرة بيوتهم استعداداً للتسجيل، فبادره أحد المواطنين بالقول (يا سيّد، كيف تحثّنا على توسيع بيوتنا في أرضٍ ليست لنا، أما ذلك بحرام؟ فأجاب الوالد: هذه أرضكم وأرض أجدادكم، أنتم من زرعها وعمرها وهي ليست ملكاً لأحدٍ غيركم، فلا حرام في استعادة أرض أجدادكم). وكان يذكرهم بحديث الإمام علي عليه السلام: (عجبت لمرءٍ يبات جائعاً وعياله، ولا يخرج شاهراً سيفه).
قرى البحرين وأحياؤها ذات بيوتٍ صغيرةٍ ومتلاصقةٍ مع بعضها بطرقات ضيقة لتحمي نفسها من هجمات النهابة والتي كثيراً ما تتعرض للنهب). وقد شاهدت بأم عيني وأنا طفل صغير، كيف كان يضرب الفلاح من صاحب الأرض المتنفذ بسببٍ أو دون سبب. وبقيت هذه الحادثة محفورة في ذاكرتي رغم مرور السنين وكأنها حدثت بالأمس. فكأن الوالد يأخذني معه في عطلة المدارس في فصل الصيف في زيارته للقرى وخصوصاً يوم الخميس الذي يخصصه لزوجته الثانية أم السيد جعفر بنت الحاج عبدالحسين الإسكافي رحمه الله، في قرية البلاد القديم ونقضي نهارنا متنقلين من عين قصاري إلى عين الكرش إلى عين بوزيدان، نسبح في هذه العين ونمر بهذه البساتين الغناء، ونتغذى في بيت الخالة بنت الشيخ جواد. وعصراً نعود مع الوالد مشياً على الأقدام مروراً على بستان كان ضامنه الحاج عبدالحسين الإسكافي، واسم هذا البستان (الغسلة) ويقع مقابل الجمة في السنابس، كان لكل بستانٍ اسم.
وفي إحدى المرات دخل صاحب البستان بسيارته الفارهة السوداء متجولاً متفقداً البستان ليشاهد إحدى النخلات وقد قطع سعفها على الطريقة المصرية، فغضب لهذا المنظر وصاح بالفلاح الذي كان يقطع البرسيم، من جزّ سعف هذه النخلة، فأجاب الفلاح: أنا (طال عمرك)، فأزبد وأرعد وقال: ألم أقل لكم بأن لا تقطعوا سعف النخل، فأجابه الفلاح: (طال عمرك) النخل مزدحم فأردنا أن نخفف عليه. لم يمهله طويلاً حيث انهال عليه ضرباً بعصي خيزران كانت في سيارته، والفلاح يتألم ويستغيث ولا من مغيث. هكذا كان يعامل المواطن في ذلك الزمن الأغبر، وقد حدثني والد الأخ عبدالله محمود راشد مطيويع رحمه الله بأنه وصحبه كانوا يساقون مع حميرهم لمدة تتراوح بين أسبوع وأسبوعين لنقل الحصى والطين دون أجرٍ (أي عمل السخرة) ويضربون أن رفضوا ذلك من قِبل المتنفذين.
حادثة أخرى تلج عليّ لأرويها لكم لتعرفوا كيف أن قادة هيئة الإتحاد الوطني أرادوا بحركتهم هذه استعادة كرامة الموطن، ففي إحدى زيارات الوالد يرافقه المرحوم عبدعلي العليوات إلى قرية كرزكان، وكنت برفقتهم، وكان الجميع في ضيافة الحاج محمد علي الفردان، ومعروف أن عائلة الفردان عائلة وطنية مساندة لهيئة الإتحاد الوطني، وبحضور غالبية أهل القرية في مجلس الفردان الواسع. وكان نهج الهيئة مكاشفة الناس بكل مجريات الأحداث، ويتلقون اقتراحاتهم ويستمعون لانتقاداتهم، وبالمقابل تطلعهم قيادة الهيئة على مفاوضاتها باسمهم مع الحكومة ومع مستشارها بلغريف (أي أنهم كانوا أكثر شفافية من بعض القادة الوطنيين حالياً)، فكان الوالد والحاج عبدعلي رحمهما الله يتحدثون عن بلغريف وألاعيبه فانبرى لهم أحد أبناء القرية واسمه أحمد أبوحاتم – شخصية مرحة هزلية – وقال مخاطباً الوالد والحاج عبدعلي بقوله (هذا المستشار اللي انتم ما قادرين عليه .. أنا أقص عليه)، فسأله الحاضرون كيف يا أحمد؟ خبّر السيد، فقال (أنا متضمن بستان المستشار، وأشتري كل اسبوع مجموعة من الخراف ثمن الخروف 10 ربيات (الروبية عملة الخمسينيات)، وأسمنهم في بستانه، وأبيع الخروف الواحد على المستشار بسعر 50 روبية، وفي أحد الأيام حضر المستشار وزوجته وهم يمتطون الجياد، وشاهدني وأنا محني اليدين – ولا تزال الرواية لأحمد حاتم – فسألني: ما هذا الذي في كفيك؟ فقلت له: حنّة. فقال المستشار مستهزءً: هل أنت مريمو؟ أي هل أنت امرأة لتتحنى وتتنزين (معروف أن أهل البحرين رجالهم يستعملون الحناء تطبباً – أي للعلاج). وأمرني بالإنبطاح أرضاً، وبدأ يضربني على قفاي بالعصا، وأنا أصرخ، وكان يقول بحركات تمثيلية، وأبناء القرية يضحكون عليه وعلى حركاته. وأكمل أحمد أبوحاتم... بعد أن ضربني بعته خمس خراف، كل خروف بـ 50 روبية وغلبته. الجميع يضحكون ويقهقه، عدا الوالد الذي احمرت وجنتيه غضباً ونادى أحمد منفعلاً: كيف تسمح له بضربك؟ عندما ضربك ضربنا جميعاً وأهاننا كلنا في شخصك.. احفظ كرامتك يا أحمد، لأن كرامتك من كرامة الوطن ولا تمسح لأحد أن يهينك ويضربك مقابل فتات زائل. ساد الصمت المجلس... واستمعوا لمحاضرة عن عزة النفس والكرمة والترفع على الصغائر وكيف نصون كرامة الوطن والمواطن.
وللحديث بقية .... |