حسين المحروس:

في عينيه يُدّخر الكلام...
تأجّل الكلام في عيني عبدالله الخان سبعين سنة لا يحدّث الناس فيها إلاّ صوراً. أمّا الكلام الذي هو الكلام فأوانه حين تستريح العينان. أدرك الخان جيداً أن الصورة ذخيرة الكلام، فترك التفاصيل فيها، وفي سيرته كلّها للناس. ربّما كان هذا ما أرجأ أوان الكلام عن نفسه. يسوّي صور الناس، وجوههم، أماكنهم، حياتهم وأفراحهم، يومياتهم، آمالهم ومآلهم، يخلد ما مرّ من بينهم وفات، ويُسكن نياتِهم في صورهم. وهو إذ يفعل ذلك يُرجىء صورته ليوم غير معلوم. المصور لا يلتفت لصورته. وعندما يلتفت لا يستطيع أن يضع فيها كلّ الذي في خاطره. لا يقدر أن يقول عنها كلّ شيء.
لكثرة ما في خاطر الخان لا يقوى على أن يقول كلّ شيء مرّة واحدة. وجدته يحاول تنظيم التنافس بين ما سيقول وما في ذاكرته. الأكثر أثراً فيه يأتي أولاً. وكم مرّة قطع الحديث في شأن ما في منتصفه ودخل عليّ بكلام جديد. كم مرّة رأيتُ ذلك حتى ظننت أنّه نسي ما فات من كلامه قبل قليل. مثل شجرة ممتلئة بروحها الخضراء فلا تسع الأوراق الأغصانُ، فتورق في جذورها.
لا يمّل منه جليسه، ولا يُعرف الوقت المهدور لديه. بستان بحريني يفاجئك كلّ خطوة بمشهد جديد. لا ترتيب، ولا هندسة غير هندسة فلاح ينتظر اللون الأخضر في كلّ أرض. ليس في البستان جهة تشبه جهة. البساتين لا تتشابه، نتوق إليها، نحبّ رائحتها التي تتغيّر كلّ لحظة. في البستان يضجّ البصر وترتاح العين. لا شيء فيه يشبه مثيله. العين على خطّ المفاجآت. لا نظام. لا عقل. أغصان أمزجة متداخلة. لا فراغ إلا وينتظر نية حياة جديدة بالرغبة أو بالمصادفة وبإذن الله. البساتين خواطر. وذاكرة عبد الله الخان خواطر أيضاً، كلّ جهة فيها لا تشبه الجهة الأخرى. هذا هو البستان البحريني بامتياز.
لكلّ حدث، لكلّ مكان، لكلّ أمر صورة في أرشيفه. ولكلّ حكاية نصيب في ذاكرته. عيون عبدالله الخان معجم البحرين. معجم صور البحرين. معجم للإبصار والمبصرات. البحث فيه يعتمد الضوء. فكيف يمكن كتابة سيرة كلّها صور؟ كيف يمكن كتابة سيرة بستان؟
ولأنّ صناعة النظرة الجديدة تحتاج إلى معرفة تُشبه في نتائجها قبض الطفل على العينين الجديدتين، فإنّ القدرة على هذه الصناعة تشعر صاحبها بشيء من السلطة. المعرفة سلطة. وغضّ البصر تأجيل للمعرفة، تأجيل للسلطة.


الفوتوغرافي الذي يصنع النظرة، ويقبض على التجربة، ولا يغضّ البصر هو فوتوغرافي متمكّن، يحيل الأشياء صوراً كيف يشاء، ويصنع منها صوراً، ومن الصور صوراً بعدد كلّ ملليمتر حركة متمكّنة.
عبدالله الخان صنع له نظرة توثيقية لا تهدأ عند رؤية التغيرات أيّاً كانت. رأيته يحمل كاميرته - حسدت نفسي- يتجول بها في الأحياء يشبع شهوة التوثيق فيه. هو مصور «فن التوثيق» في المنطقة كلّها، تأخذه كلّ حركة تغيّر في البلاد والعباد فلا يهدأ حتى يؤرشف هذه الحركة ويوثقها. وهو إذ يفعل ذلك يتصل يخبرني فرحاً بإنجازه أنّه التقط صورة لحركة تغيرت أو مكان تبدّل شكله، أو اسم لم يعد يعرفه أحد. يخبرني أنّه التقط تلك الصورة قبل عشرين سنة، وفي المكان ذاته، وأنّ بإمكانه الآن أن يضع الصورتين متجاورتين والكتابة حولهما، ويقول لي: الآن تأتي أنت.
مررت معه في أماكن قضى فيها وقتاً شاباً صغيراً مفتوناً بالحركة والكاميرا. يتوقف فيها ويروي. وقد يعتريه ما يعتري الحزين على تغيّر الزمان دون المكان. أخذني إلى أزقة ضيقة في أحياء لندن القديمة، وجدته يسبقني بخطوات فيها ولم يكن كعادته في المشي جواري يسرد سيرة الأماكن. جلس على بناء مرتفع عن الأرض فظننته تعب من المشي. سألته: تعبت؟ فقال: لا. ولم يزد كلمة واحدة. لم يرفع كاميرته في المكان. ظلّ صامتاً حيناً، ولما نهض قال: «طالما كنت هنا في الستينيات. لم يتغيّر شيء إلاّ أنا». صار يسأل المارة الذين يصغرونه عن مطعم قديم جازماً لهم أنّه كان هنا. تنقل بي من ممر إلى آخر بحثاً عن المكان. أعدت عليه سؤالي: متى زرت المطعم؟ فقال: «زرته طالباً». لم أشكّ في ذاكرته قطّ. كان يعرف حتى الحدود بين حيّ وآخر. قال: «الآن بعد هذا المبنى سنخرج إلى الحيّ الصيني».
يخبرني أحياناً عن قصة كلّ صورة وقد نسي أنّها قصته هو أيضاً، وسيرته مع الكاميرا من فضة المرايا في بيت أبيه. الصورة عند الخان تاريخ لا يتعدد إلا عند مُؤَوِليه. الصورة عنده نصّ لراوٍ شهد الحدث ولم يَروِ له أحد الرواية. عبدالله الخان فنان الصورة التوثيقية بامتياز. المصور الفوتوغرافي نظرة، إلا الخان فهو معجم النظرات.
هيأت له موعد اللقاء الأول معه. فاقترح المكان: مؤسسة الصقر للتصوير. جاء في موعده. يلبس قميصاً بنصف كم، وربطة عنق زرقاء. هذا هو المصور عبدالله محمد الخان إذن؟ رحبّ بي، وسألني عن اسمي، ثمّ قال: «لا أريد أن يعرفني أحد أني كنت في يوم ما مصوراً فوتوغرافياً، لا أحبّ أن يصبح واحدٌ من أولادي مصوراً، لا أرغب في كتابة سيرتي». قال ذلك وغادرني. هبط الإحباط كلّه. كيف؟ كنت يومها أعدّ كتاباً عن سيرة الصورة في البحرين، كتبت منه فصولاً، وما زلت أعمل فيه إلى يومنا هذا.
كان السؤال الموجع: كيف يخرج كتاب كهذا وليس فيه سيرة هذا الرجل؟ سيرة الصورة في البحرين والمنطقة كلّها بدون عبدالله الخان هي حتماً سيرة منقوصة، عرجاء. رغبة الخان تلك لظرف قد يزول في المستقبل. ما اعتدتُ اليأس أو التخلي عن فكرة أو مشروع أيقنت بأهميته. ظلتّ سيرته في بالي حتى مجيء سنة 2003م التي وافق فيها عبدالله الخان على إقامة معرض فوتوغرافي فردي متنوع له في وزارة الإعلام، فاغتنمت الفرصة. كيف يكون معرضاً لإنسان كهذا بلا سيرة توزع على زوار المعرض؟ وافق على اقتراحي وصار يجلس معي يومياً في مكتبي أو في مقهى متحف البحرين الوطني لتسجيل السيرة صوتياً. وفي اليوم الأخير أخرج كاميرا صغيرة من جيبه والتقط لي صورتين. هذا كثيرٌ على ما كنت أحلم به: تسجيل مطوّل لسيرة المصور عبدالله الخان وصورتان؟
صدرت السيرة المختصرة ووزعت في المعرض الذي حوى قليلاً من سيرته البصرية. كان معرضه بستاناً. اليوم عدتُ للسيرة من جديد ووجدتها أقصر من سيرته، ولا تلمّ بالكثير من صور معجمه المتنوع. أعدتُ صياغتها، وأضفت إليها عشرة عناوين جديدة .
الآن سيرته بستان بحريني. الآن هي معجم الإبصار والمبصرات... معجم العين.
|